مسافة قصيرة جدا ووسائل رخيصة ومتيسرة , تلك التي توصل من يختار طريق الذل والعار الى مايصبوا اليه , من جاه زائل ومنصب شكلي لايملك منه سوى كلمة نعم , يقولها صباح مساء الى من صنعوا منه دمية وأسبغوا عليه القاب ( فخامة , ودولة , وسيادة ..) , ونفخوا فيه روح البطولة الزائفة , لكن التخلي عنه وأستبداله يبقى مشروعا قائما في تفكير الصناع حالما تنتهي المهمة بدون حروب وضجة , فالصانع يعرف جيدا كيف يأكل صنيعته , حتى لو أوهم الناس بأنه قد صنع اله لهم , كما العربي في الجاهلية يصنع اله من التمر ثم لايتوانى عن أكله في عرض الصحراء . وأذا كان هذا الطريق لم ينتج لنا سوى تجارب كسيحة , و (قادة ) من ورق لفظتهم الشعوب قبل أن يسجل التاريخ أسمائهم في صفحاته السوداء , فأن طريق المجد والبطولة الذي بقي حكرا على الرجال الذين لايتهيبون صعود الجبال وخوض غمار المنايا , والذين لاتلهيهم تجارة أو بيع عن مقارعة الباطل , وقول الحق في حضرة سلطان جائر قد أنتج لنا تجارب ثورية تفخر بها الشعوب , وولد لنا قادة عظام أنحنت لهم الهامات , وخلدهم التاريخ في أنصع صفحاته . لقد أفرزت لنا المحاكمات الصورية التي طالت القيادة العراقية الشرعية قبل العام 2003 صورا بطولية كبيرة سطرها من كانوا في أقفاص الاتهام , زادت المؤمنين بهم فخرا وتصميما , بينما أرتدت على القائمين على تلك المسرحية وبالا وخيبة , بعد أن كانوا يؤملون أنفسهم بأركاع القادة لهم وأستجداء الرحمة منهم , والتوسل بطلب العفو عن مواقفهم السابقة الرافضة للهيمنة والاستعمار ونهب الثروات والتبعية , فلقد توهموا بأن كراسي السلطة السابقة التي كانوا يعتلوها , قد غلبت على مبادئهم فأصبحوا أكثر لينا , وأكثر طلبا للسلامة , وأن الشيخوخة قد أخذت منهم ذلك الحماس والصلابة , وأنهم أصبحوا مؤهلين للمساومة وعقد الصفقات , فاذا بهم أمام شباب في السبعين من العمر , هد قواهم المرض ومسيرة السنين , لكن المبادئ والافكار التي يؤمنون بها لازالت شابة في عقولهم , ولازالت الدماء تجري في عروقهم بنفس الدفق والقوة , وأن لديهم من حجة القول وبيان الكلام ماليس عند غيرهم , وأن كل منهم كان يتطوع لتحمل مسؤولية أي قرار أو توجيه كان قد صدر خلال عمر التجربة على عاتقه غير هيابا للنتائج , فالمهم لديه هو أن ينجي رفاقه الاخرين من طوفان الحقد والكراهية التي تمور في عقول وقلوب الغزاة وأعوانهم , وأن نكران الذات والدفاع عن المجموع والهتاف بأسم الامة ومبادئها وقضاياها حتى فوق منصات الاعدام هو نفسه لم يتغيير . ومع كل ذلك فلازالت فصول المسرحية لم تنتهي بعد , وما زال لعاب الجزارين يسيل طلبا لمزيد من الدماء , وهاهو السيد طارق عزيز يمثل مرة أخرى ورفاق أخرين له في قفص الاتهام رغم مرضه ونوبات القلب التي تراوده بين الحين والاخر وتقدمه في السن , بتهمة تصفية الاحزاب الدينية التي ذاق المواطن العراقي وبال تسلطها على الحكم خلال سبع سنوات مضين , والتي أفرزت صورا مقززة من القتل والدمار والتخريب والاغتصاب والتعذيب والتغييب ونهب الثروة والاثراء الفاحش , والكل يعلم جيدا بأن الرجل كان مشغولا بالقتال في المحافل الدولية والعربية والاقليمية منذ بدايات الحكم الوطني وحتى ساعة الغزو , وأنه وعلى مدى تاريخه النضالي الطويل كان بعيدا عن الشبهات والاتهاهات, حتى أرتقى بسلوكه وعلمه الى مصاف الشخصيات الدبلوماسية الدولية المعروفة ورجال الفكر المرموقين , لكن القصاص الظالم يجب أن يقام عليه في ظل قانون الغاب الدارج اليوم في العراق , وفي عرف مجموعة الجهلة والاميين الذين يحكمون اليوم بأسم الغزاة , بعد أن دافع عن رفيقه الرئيس الراحل صدام حسين مفاخرا بتشرفه بالعمل والنضال معه , ويعود مرة أخرى في الجلسة الاخيرة للمحكمة ليقول بهدوء أزعج القاضي ( أنا أفتخر بأني وصلت الى هذه الدرجات , وأنا رجل سياسي مثقف , وكاتب , ولي تاريخ , ولي سمعتي العراقية والعربية والدولية ) في معرض رده على المحكمة التي تتهمه بالعمل مع اللجنة الامنية التي تنسب اليها المحكمة تصفية ماسمي الاحزاب الدينية . لقد أختار السيد طارق عزيز الطريق الصعب منذ بدايات حياته ومازال في نفس الطريق حتى اليوم , فبنى له مجدا مخلدا وتاريخا ناصع البياض على الرغم من التضحيات الجسام التي دفعها ومازال يدفعها وهو مقييد الحرية من قبل جهلة لايقيمون وزنا لعلمه ومنزلته الرفيعة , وكان بامكانه أن يختار الطريق الاسهل , ويخرج عن جادة الوطنية منذ أن بزغ نجمه في ذروة العدوان على العراق , ويرتمي في أحضان الاعداء الذين كانوا يركضون وراء الدبلوماسيين العراقيين في الخارج بغية تجنيدهم وهو شيخ الدبلوماسية العراقية والعربية , وكانت المواصفات التي يحملها كدبلوماسي ناجح , وأحد قيادي الصف الاول في الحزب والسلطة , أضافة الى ديانته المسيحية , ولغته الانكليزية المتكامله , كلها عوامل تساعده على أن يفتح العالم الغربي أبوابه على مصراعيها أمامه لو أنه أختار طريق الخيانة , وأن تحتضنه مراكز البحوث السياسية والدراسات الدولية , وأن تتلقفه القنوات الفضائية والصحافة العالمية , وأن يتبوء أعلى المناصب في المنظمات الدولية والاقليمية , لكنه أثر العيش بصدق ووطنية , ومن ثم الاستشهاد بشرف . أن عبيد السلطة الذين لم يتوانوا عن القدوم مع أسيادهم على ظهور الدبابات الغازية أو مهرولين خلفها , لم يمضي الا وقت قصير من عمر وجودهم في السلطة , حتى أصبحت أرصدتهم بملايين الدولارات في الدول التي كانوا يعتاشون فيها على المساعدات الحكومية , وقامت لهم قصور وبنايات ضخمة في أرقى شوارع أوربا , وأصبحوا يمتلكون المكاتب والشركات التجارة الكبرى في أبو ظبي وبيروت ولندن وغيرها , بينما أمضى السيد طارق عزيز خمسة وثلاثون عاما في موقع القرار الاول , وجاب العالم كله في جولات رسمية كان يستطيع أن يجمع من خلالها الاموال الطائلة ويفتح الحسابات السرية ويشتري العقارات , لكنه كان عزيز النفس نزيه اليد , تكافح اليوم عائلته كي يحصلوا على قوتهم ككل العوائل العراقية التي فقد معيلوها وظائفهم بعد الغزو . لقد أضطهدت كارثة الغزو والاحتلال الشعب العراقي من أقصاه الى أقصاه , وكان نصيب الحركات والشخصيات الوطنية من القتل والاعتقال والتعذيب والتغييب والمحاكمات الصورية , الحصة الاكبر والجور الاعظم , مترافقة مع كم هائل من المعلومات المضللة التي أنتجتها الماكنة الاعلامية الاستعمارية الدولية , التي أستهدفت شيطنة وتقبيح كل من وقف في وجه المشروع الامريكي الصهيوني , والتي رشح جزء يسير منها في الصحافة الامريكية والغربية عموما , وكان أخرها مانشرته صحيفة ( الواشنطن بوست ) الامريكية قبل أيام قليلة , عن تخطيط المخابرات الامركية لفبركة اشرطة جنسية لتشويه صورة الرئيس الشهيد صدام حسين واثارة النقمة الشعبية عليه كي يسهل تنفيذ الغزو , وأن المحكمة الصورية الجارية منذ سنوات والتي يمثل أمامها قادة العراق الشرعيين , أنما هي صورة أخرى من صور التقبيح التي أنتجتها الالة الديمقراطية الغربية , والتي تصفق لها بعض الابواق العربية المناهضة لقوى المقاومة الوطنية . د. مثنى عبد الله / باحث سياسي عراقي